كل السلطة للشعب
مقال في مؤتمر علمي

لقد شغل مفهوم السلطة عدداً كبيراً من الباحثين في مختلف فروع العلوم الاجتماعية والسلوكية لصلته الوثيقة بتلك العلوم وارتباطه بفروع المعرفة العلمية التي تداخل فيها هذا المفهوم حتى غدا كثيراً من المهتمين لا يميّزون بين هذا المفهوم وغيره من المفاهيم المرتبطة به, وقد ثار الجدل والخلاف بين التخصصات العلمية في تحديد دقة مفهوم السلطة, ونظر كل تخصص من جانبه إلى زاوية معينة يختص بها هذا العلم أو ذاك, وثارت حوله التعريفات المتعددة التي تأثرت بطبيعة التخصصات ذاتها, فعلم السياسة والقانون والاجتماع والنفس باعتبارها فروع لتخصصات مختلفة نظرت إلى مفهوم السلطة من زوايا متعددة, ولذلك تأثر مفهوم السلطة ذاته بمحتوى مفاهيم تلك العلوم, وتأثر تبعاً لها عدد من المتخصصين فيها, وخرج في دلالات مختلفة أبعد معنى السلطة عن مفهومها الحقيقي, وزاح بها نحو مفاهيم أكثر غموضاً والتباساً, أكسبها ضبابية مختلفة, فمنهم من رآها تحتوي على عنصر القوة السلبي الذي يستند إلى طاعة الأمر في أقصى فعله ومداه, ومنهم من رآها بوجه آخر فقلل من أهمية قوة فعل الأمر السلبي ومنحها جانباً أكثر إيجابية لمفهومها الحقيقي, ومنهم من ركز على أهمية الطرف الآخر أو الآخرين ممن هم يقعوا تحت تأثيرها وضمن مجال فعلها, ولكنها بشروط متعددة, فمنحوها شرعية قبولها, وأعطوها حق تفويض الأمر له من جانب الآخر باعتبارها حق مكتسب لا يجوز لأحد إصدار فعلها إلا بموافقتهم وقبولهم شروطها. وهؤلاء هم الأقرب إلى مفهوم السلطة في معناها الحقيقي الذي يراد منه الحق الشرعي المكتسب للطرفين في إصدار فعل الأمر وجهة قبوله لتحقيق أهداف عامة يسعى الكل إليها.

وبهذا فإن مفهوم السلطة الحقيقي – في تقديرنا – قد خرج من دائرة التجاذبات العلمية التي دار حولها الشك, وتضاربت فيها مفاهيم السلطة ومعانيها, وتأثر بها عدد من المتخصصين في العلوم المختلفة, بل إن هذا المفهوم قد جمع في تحليل مضمونه عدد من التخصصات المتشابهة التي اهتمت بمفهوم السلطة في جوانبها المتعددة. فصار هذا المفهوم أكثر دقة لأن قوة السلطة تستمد تأثيرها من قوة الجماعة وليس من قوة الفرد وحده, ولذلك فإن وجودها ارتبط بعلاقة الفرد مع الآخر وليس بعلاقة الفرد بنفسه, فالفرد لا يشعر بالسلطة إلا مع الآخر, فهي صانعة لنفسها ومصنوعة مع غيرها, تظهر ضمن علاقة التفاعل مع الآخر الذي يستجيب لها في إطار إصدار فعل الأمر وقبوله من جهة الآخر, الذي يجعل الآخر لا يحس بأمر السلطة وفعلها, ويجعل المأمور لا يشعر بثقل السلطة وقوتها, بسبب اعترافهما بشرعية العلاقة وخضوع كل منهما لإرادة الآخر والتزامهما بالشروط التي حددها فعل الأمر وقبوله.

لا شك أن مفهوم السلطة بوجه عام يوجد خارج وعي الفرد وشعوره, ولا يتحقق إلا بوجوده مع الآخر أياً كان هذا الآخر فرداً أم جماعة, ويتأثر هذا المفهوم بمكونات العلاقة التي تربطه مع الآخر وبأحقية شرعيتها معه في إطار الأهداف المعلنة التي شملتها تلك العلاقة, وتسعى لتحقيقها بحيث تصبح علاقة السلطة مع الآخر هدفاً في حد ذاتها, وتكون عناصر القوة في صالح الطرفين ومصلحتهما.


مصطفى صالح الجيلاني الازرق، (08-2008)، جامعة قاريونس: جامعة قاريونس، 1-18